فيلم «ولادة».. بداية متغيرة ونهاية متشابكة
ـ إبراهيم الملا
شهدت مسابقة «المهر الإماراتي» بمهرجان دبي السينمائي، مساء أمس الأول، عرض التجربة الروائية الطويلة الأولى للمخرج عبدالله حسن أحمد بعنوان «ولادة»، وهي تجربة تأتي في سياق الأسلوب التعبيري الخاص الذي ينتهجه عبدالله حسن، انحيازا منه للسرد الواقعي، والإيقاع المتمهل والهادئ في بناء وتشكيل ملامح القصة، وتجسيدها تاليا على الشاشة من دون تكلّف أو إبهار مبالغ به، وكانت بصمات هذا الأسلوب واضحة في الأفلام الروائية القصيرة التي قدمها سابقا في ذات المهرجان، وفي مسابقة أفلام من الإمارات مع بدايات تشكل الحركة السينمائية المحلية، وفرزها للعديد من المواهب الشابة والأصوات الواعدة التي نرى إبداعاتها حاضرة وفاعلة وناضجة في المشهد السينمائي الإماراتي اليوم.
يتوزع الزمن السردي في فيلم «ولادة»، الذي كتب نصه السيناريست يوسف إبراهيم، على ثلاث كتل مشهدية، يجمعها التناغم السيمتري شكلا، والمزج العاطفي ضمنا، ورغم أن كل كتلة منها تتحرك في مسار مستقل، إلا أن الرابط الذي يصل بين خيوطها يبقى حاضرا وملموسا كبنية ومناخ وهاجس، منذ اللقطة الأولى وحتى لقطة الختام.
تركّز الكتلة المشهدية والسردية الأولى على الأم «أم عبّود» ــ الممثلة نورة العابد ــ والتي تنتظر مولودها الثاني قريبا، بعد أن أجهضت قبل ذلك مرتين، ونلاحظ اهتمام الأم بالناقة التي تمتلكها العائلة والموشكة هي الأخرى على الولادة، تسكن الأم في منطقة محاذية للجبال، وفي بيئة قاسية نوعا ما، ولكنها منسجمة مع رغبة أهاليها في العزلة الاختيارية، بعيدا عن صخب المدينة وضجيجها، حيث تتشكل وسط هذا الهدوء المكثف حمولات وأعباء الحياة اليومية بكل ما يعتمل فيها من ألم وترقّب، ومن تفاؤل وخلاص أيضا، وهي الحالة التي تجسّدها الأم الحامل هنا، بكل أطيافها المتشابكة ومآلاتها المتضّادة، خوفا من فرح قد لا يتحقق، وأملا في بهجة قد تطرق باب عائلتها المغلق طويلا على الرتابة والوحدة والانزواء.
يلاحق المسار الثاني في الفيلم حكاية الطفل عبّود ــ يقوم بدوره عبدالرحمن المرقّب ــ الداخل في تحدّ مع رفاقه في المدرسة وفي يوم ميلاده الثاني عشر، للفوز في مباراة لكرة القدم يرتدي فيها قميص اللاعب الشهير ومثله الأعلى «رونالدو»، ولكن يتم تأجيل هذا التحدي عند ورود خبر وصول جثامين شهداء الإمارات في اليوم نفسه، حيث يتم تعطيل الدراسة للمشاركة في مراسم التشييع، وتكليف الطلبة بإلصاق صور الشهداء على الشوارع والميادين، يصادف الطفل في طريق عودته من المدرسة جدّه من والده والذي يطلب منه مرافقته لاقتطاع الشواهد الحجرية من الجبال المحيطة واستخدامها في المقبرة عند استقبال الجثامين، نكتشف في هذه الرحلة القصيرة مدى التوتر في العلاقة بين الجدّ وحفيده، عندما يعيد الطفل ما سمعه من أمه حول الأمنية الشريرة التي لفظ بها الجد، والمتمثلة في رغبته بموت طفلها عبّود قبل أن يخرج للوجود، ولكن الجدّ يفسر ما حدث بغضبه وخوفه من الإجهاض مجددا بعد أن أسقطت الأم جنينها في الحمل الأول، ينتهي الأمر بعبّود إلى التصالح والنسيان والتفرغ للمشاركة في مراسيم الدفن.
في المسار الثالث نرى الأب ــ يقوم بدوره الممثل علي جمال ــ وهو يناقش زوجته المستاءة والقلقة من وضع الناقة والتي تريد أن يوفر لها زوجها مكانا مناسبا لولادتها، يخرج الأب بسيارته للبحث عن هذا المكان، ولكنه يصادف في طريقه رجلا مسنّا وأبكم ــ يقوم بدوره الممثل العماني القدير صالح زعل ــ حيث نكتشف أن الرجل يعاني أيضا من مشكلة صحية، يحاول الأب حلّ مشكلة الرجل، وبعد فترات توقف طويلة وبعد شراء دواء له من الصيدلية، يلوّح الرجل المسنّ بورقة كانت مخبأة في جيبه فيها عنوان منزله، هذا الانقطاع الإجباري عن البحث، سيضع الأب في دوامة من المتاهات النفسية، والتخيلات اللاواقعية، وصولا إلى المكان الذي يراه الأنسب لولادة الناقة، ولكن من دون أن تكشف لنا الكاميرا عن شكل وطبيعة هذا المكان.
في الجزء الأخير من زمن الفيلم وفي المشاهد الممهدة للقطة الختام، نرى العائلة كلها مجتمعة في السيارة، ترافقهم الناقة في المقطورة الخلفية، ويقفل المشهد على خلفية بيضاء تتلاشى وتذوب فيها صورة السيارة، وكأن العائلة كلها، انكشفت أخيرا على التغيير والخلاص من أعباء فردية مقلقة كانت جاثمة على صدر الجميع، ولكنها أعباء تظل في النهاية جزءا من نسيج الحياة ذاتها، الحياة التي يتناوب فيها الحزن والفرح، الانكسار والانبعاث، الصمت والصخب، وأخيرا الموت والميلاد، في خطوط دائرية تنقطع ثم تتشابك، وتتيه ثم تجتمع، وتشكلّ في المحصلة الوجودية وفي لعبة الأقدار، ما يمكن أن تسميه العود الأبدي للبدايات المتعانقة دوما مع النهايات.
جاء فيلم «ولادة» مغايرا في بنائه السردي وأسلوبه الإخراجي عن التجارب الروائية الطويلة التي شاهدناها في الأفلام الإماراتية عموما، سواء من حيث التأسيس للمشاهد باعتبارها مقدمات لا تفضي لعقدة يجب حلّها، أو من حيث التغاضي عن حتمية الصراع، وتجاوز نقطة اللاعودة بالنسبة للشخصيات المحورية.
هذا الأسلوب الإخراجي المغاير لامس التراتبية التصاعدية للحدث بمكونه الاعتيادي: (بداية، وسط، نهاية) واستبدالها بالتراتبية الدائرية (بداية متغيرة ونهاية متشابكة) في إلغاء واضح لفضاء «الوسط»، خصوصا وأن أحداث الفيلم كانت تدور في يوم واحد وفي زمن مضغوط أصلا، وبالتالي جاء هذا الشكل مناسبا وموفقا إزاء القرار الذي اتخذه المخرج عبدالله حسن، وبجرأة في اعتماد العودة إلى النقطة الأولى، وإلى المحفّز الأصلي المحرك لكامل مسارات القصة، وكامل ردّات الفعل التي أبدتها الشخصيات الرئيسة الثلاث في الفيلم.