للمتخصصين: محاضرة في السيناريو والإخراج لـ«أندريه تاركوفسكي»
«سينماتوغراف» ـ ترجمة محمد الميسي
من الشائع اعتبار السيناريو نوعا أدبيا، وهذا خطأ شائع، السيناريو لا يمت للأدب بصلة، ولا يمكن أبدا أن يكون نوعا من الأنواع الأدبية.
إذا كنا نريد للسيناريو أن يكون قريبا من الفيلم، فإننا نكتبه كما سنصوره، أي أننا نكتب بالكلمات ما نريد أن نراه على الشاشة، ذلك هو السيناريو العادي بمفهومه الصحيح، وهذه الطريقة في الكتابة ليست أدبا على الإطلاق، إلا أن ضرورة تقديمه إلى الجهات المختصة، تفرض كتابته بشكل مقبول ومفهوم للجميع، مما يعني أننا نكتب شيئا بعيدا عن الرؤية السينمائية، إذ أن الكتابة السينمائية لا تلاءم الطريقة الأدبية، وذلك ما ينطبق عليه المثل المعروف وإن بصيغة أخرى: تكفي مشاهدة واحدة لفهم الفيلم بينما يحتاج السيناريو لعشرات القراءات.
يستحيل تحويل الرؤية السينمائية إلى كلمات، فكأننا نقوم بوصف الموسيقى عن طريق النحت، أو نقوم بإنجاز منحوتة لوصف مقطوعة موسيقية، تبدو العملية مستحلية ، السيناريو الحقيقي لا يهدف إلى أخذ مكانة عمل أدبي جاهز، يجب أن يكتب منذ اللحظة الأولى كخريطة لإنجاز الفيلم في المستقبل، في رأيي كلما كان السيناريو دقيقا كلما كان الفيلم سيئا، عادة ما نسمي تلك السيناريوهات الدقيقة «قوية»، الأبطال في هذه الأعمال دائما ما «يتحولون»، كل شيء فيها «يتحرك» إلخ، هذا مبدأ العمل على سيناريوهات تجارية، الأمر يختلف في سينما المؤلف، إذ لا يمكن تحويل الرؤية السينمائية إلى لغة أدبية، فمهما بذلنا من جهد فإن الفيلم سيكون مختلفا، من الأفضل أن يقوم المخرج شخصيا بكتابة السيناريو، السينما الحقيقية تتخيل من البداية إلى النهاية، صفحة واحدة كانت كافية لتحرير كل سيناريو فيلم «vivre sa vie» لغودار، وكانت الصفحة عبارة فقط عن ترتيب تتابعي للأحداث كما ستبدو الشاشة، إذ لم يكن هناك حوار، فكان الممثلون يعمدون أثناء التصوير على ارتجال ما يقال عادة في تلك الحالات. هناك فيلم آخر «الظلال» «shadows ـ 1959» لـ دجون كاسافيتس، وهو عمل فريد من نوعه، فهو ارتجال بكل ما تحمل الكلمة من معنى، دراما الفيلم جاءت كنتاج لما صور من لقطات، وليس العكس، هنا كل لبنة بني عليها الفيلم لتطوير الحكي الدرامي كانت عفوية ولم تكن مقررة مسبقا، قامت اللقطات المصورة بكسر قاعدة البناء الكلاسيكي للسيناريو، كل شيء يبدو متينا، وقابلا للتوضيب مادامت كل اللقطات من طبيعة واحدة.
وهذا لا يعني أنه بالإمكان حمل كاميرا والخروج إلى الشارع وتصوير فيلم، سيحتاج الأمر إلى سنوات من العمل والتجريب، السيناريو شيء مهم، يجعلنا نتذكر الفكرة الأساسية ونقط الارتكاز لأي عمل، السيناريو شيء عظيم ولكنه لا يعدو كونه فكرة على الورق.
لا أفهم كيف يمكن أن نصنع فيلما عن سيناريو كتبه شخص آخر، إذا قام المخرج بتصوير فيلم معتمدا إعتمادا كليا على ماكتبه إنسان آخر يصبح كمجرد مزين للكتب.
إذا كان السيناريست يقترح شيئا جديدا، فإنه هنا يتقمص دور المخرج، عادة ما يعمل السيناريست كوسيط، ويبقي أفضل اختيار هو أن يعمل السيناريست والمخرج يدا في يد.
سأحاول بتفصيل طرح أفكاري حول السيناريو ومفهوم «السيناريست» و ليسامحني كتاب السيناريو المحترفين، في رأيي لا يوجد هناك كتاب سيناريو، فالذين يقومون بهذا العمل إما كتاب يفهمون في السينما أو مخرجون يعدون بنفسهم المادة الأدبية، وكما سبق وقلت فليس هناك نوع أدبي اسمه السيناريو.
عموما دائما ما نقع في ورطة، المخرج حينما يقوم بكتابة السيناريو فهو يكتب فقط تلك الوقائع أو الأحداث التي يتصورها كجزء من الزمن الفيلمي الذي سيبثه على الفيلم الخام، من الناحية الأدبية ستبدو هذه الكتابة غامضة، ركيكة وغير مفهومة للعامة، لا أتحدث عن القراءة فحسب، فهي أيضا لا تصلح حتى للنشر.
من جهة أخرى فإن السيناريست إذا حاول أن يطرح أفكاره الأصلية بطريقة أدبية أو ككاتب، فإنه هنا لا يقوم بكتابة سيناريو بل يقوم بإبداع عمل أدبي، كأن يكتب مثلا حكاية في 70 صفحة وإذا قام بوضع ملاحظات حول الانتقالات التوضيبية للفيلم، فما عليه إلا أن يقف وراء الكاميرا وأن ينجز الفيلم بنفسه، لأنه لا أحد سيستطيع أن يتصور الفيلم أحسن مما سيفعله هو نفسه، سيكون السيناريو هنا كفكرة تم العمل عليها بشكل كامل ونهائي، تبقى فقط عملية التصوير أي إنجاز الفيلم.
إذا كان السيناريو في هذه الحالة جيدا وسينماتوغرافيا فلن يبقى للمخرج شيء يضيفه، أما في حالة إذا كان السيناريو عبارة عن عمل أدبي محض فإن عمل المخرج هنا هو إعادة صياغته من جديد سينمائيا.
وهكذا، حينما يحصل المخرج على سيناريو بين يديه و يبدأ في العمل عليه، مهما كان السيناريو جيدا وعميقا في فكرته فإنه يبدأ بإخضاعه إلى تغييرات، ولن نرى أبدا ذلك السيناريو بشكله الأصلي يتجسد حرفيا على الشاشة، دائما تحدث تغييرات، لذلك فإن عمل المخرج والسيناريست معا دائما ما يتسمم بالصراع والبحث عن تسويات للخروج منها، من الممكن أن تكون النتيجة فيلما متكاملا، رغم أن ذلك الصراع الثنائي بينهما قد يخلق لنا أفكارا ورؤى سينمائية جديدة تبنى على أطلال السيناريو الأصلي.
نرى أن أحسن طريقة للعمل في سينما المؤلف، هي حين لا تتكسر الفكرة الأساسية للعمل وإنما تتطور، ويحدث ذلك عادة حينما يقوم المخرج نفسه بكتابة السيناريو أو يقوم السيناريست نفسه بإخراج الفيلم.
في آخر المطاف لا أرى فائدة في عزل مهنتي المخرج والسيناريست عن بعضهما، السيناريو الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون عملا للمخرج أو حين يكون التعاون مثاليا بين المخرج والكاتب.
إلا أن الكاتب لا يمكن أن يتحول إلى سيناريست، يمكنه فقط أن يوسع حدود اشتغاله، و تقمص الكاتب لهذا الدور ليس مثمرا.
باختصار، أعتقد، أن المخرج في تعاونه مع السيناريست لا يمكن أن ينجح إلا مع كاتب جيد، لأن العملية تتطلب موهبة كبيرة في الكتابة، حينما تتعلق المسألة بالمتطلبات السيكولوجية، هنا تستفيد السينما حينما تتأثر بالأدب، ما دام الأدب لا يؤثر ولا يحور خصوصياتها، أتكلم عن فهم وسبر أغوار الحالة النفسية للشخصية وعمقها، تتطلب السينما من المخرج والسيناريست معرفة كبيرة بالإنسان، ودقة في هذه المعرفة في كل حدث على حدة، مؤلف الفيلم يجب أن يكون كاختصاصي أو طبيب في علم النفس، لأن التشكيل السينمائي يعتمد وبشكل كبير على الحالة النفسية للشخصية في إطار كل حدث على حدة، إن معرفة السيناريست بالعالم الداخلي للشخصيات تفيد المخرج، لأجل هذا يجب على السيناريست أن يكون كاتبا حقيقيا.
إن تحول كم هائل من كتاب السيناريو إلى الإخراج لا يجب أن يثير الاستغراب، والأمثلة على ذلك كثيرة في سينما «الموجة الجديدة» أو بشكل أكبر في «الواقعية الجديدة» الإيطالية التي تكونت من نقاد وكتاب سيناريو سابقين، فمعظم مخرجيها المعروفين، وكقاعدة، إما يكتبون لأنفسهم أو بشراكة مع كاتب.
في حقيقة الأمر، كتابة السيناريوهات ومناقشتها في مجالس التحرير شيء رجعي ومن الماضي، سيأتي الوقت الذي نتخلى فيه عنه، لأنه من العبث الحكم على مشروع فيلم ما انطلاقا من السيناريو، كثيرة هي الأفلام التي كانت تعقد عليها آمال كبيرة في أن تكون جيدة لاعتمادها على سيناريو جيد ولكنها فشلت، بينما أفلام أخري أصبحت روائع عالمية رغم أن أحدا لم يثق في السيناريوهات التي صورت عنها، ليس هناك أي منطق في العملية.
إذا كان هناك من يعتقد أنه بإمكانه الحكم على فيلم ما انطلاقا من سيناريو مكتوب على الورق، فصدقوني إذا قلت لكم أنه يرتكب خطأ جسيما.
للأسف، في الغرب، هناك المنتج الذي يريد أن يعرف أين سيستثمر أمواله، وعندنا مؤسسة السينما التي هي الأخرى تريد أن تعرف أين ستصرف أموال الدولة، إلا أن ذلك ما هو إلا كذب على الذات، كذب متبادل بين الطرفين، نحن نكذب على أنفسنا، والذين يعملون في لجان اختيار السيناريو يكذبون على أنفسهم.
ويبدو أنه ما دمنا نحتاج إلى منتج في صورة ذلك الرجل الغني، أو في صورة مؤسسة السينما، سنكون دائما في حاجة إلى مهنة «السيناريست».
تبقى علاقة الشراكة بين المخرج والكاتب، كأعقد معضلة في العملية، ولكي يكون عملهما مثمرا من المهم أن يفهم الكاتب أن الفيلم لا يمكن أن يكون كرسومات لتزيين الكتب، الفيلم بمثابة عملية قراءة فنية جديدة للعمل الأدبي، والعمل الأدبي بحد ذاته لن يكون سوى أداة بين يدي المخرج تدفعه وتلهمه لإبداع أشياء جديدة، لقد اصطدمت أثناء عملي كمخرج بعدم فهم كتاب كبار أمثال ستانيسلاف ليم أو فلاديمير بوغامولوف لهذه المسألة البديهية في التعامل مع النص، إذ كانوا لا يسمحون بتغيير ولو كلمة في أعمالهم.
ويبقى عدم فهم خصوصيات السينما بالنسبة لعدد من الكتاب شيئا منتشرا، من جهة أخرى فإن تعاوني مع الكاتبين الأخوين ستروغاتسكي كان عملية مثمرة، باختصار ليس بإمكان كل كاتب جيد أن يصبح كاتب سيناريو بسبب بعض الأشياء التي ذكرتها سابقا، وهذا لا يعتبر بخسا لقيمتهم كمبدعين، ولكن بسبب الاختلاف بين الأدب و السينما.
ما هو «موضوع» السيناريو؟ ليس هناك جواب مطلق، لنتذكر ما سردته سابقا عن أفلام غودار وكاسافيتس، لذلك سأقف عند وجهة النظر التي أراها أقرب إلى الواقع، أي ماذا يعني بالنسبة لي «السيناريو».
تصوري لما يجب أن تكونه السينما، إمكانياتها وقدراتها كفن، فإن أهم شيئ بالنسبة لي هو أن يكون موضوع السيناريو ذا وحدة في الزمن، المكان والحدث كما في السينما الكلاسيكية، في الماضي، كان أمرا مهما بالنسبة لي استعمال الإمكانيات الشاملة لتوضيب كل شيء بشكل كرونولوجي، الأزمنة المختلفة، الأحلام، ارتباك الأحداث التي تقف فجأة في طريق الشخصيات الأساسية ومعاناتها وتساؤلاتها. الآن أريد أن يتدفق الزمن بسلاسة في اللقطة دون اللجوء إلى عمليتي اللصق و القص، أريد لعميلة لصق اللقطات أن تكون فقط استمرارية لعرض حدث ما ولا شيء أكثر، أن لا تكون عملية لكسر التدفق الزمني، أو إعادة ترتيبه ورصه دراميا.
أعتقد أن هذا الحل العادي و البسيط يعطينا إمكانيات أكثر .
نتوقف عند مسألة الحوارات.
لا يمكن أن نختزل فكرة لقطة ما في الحوارات «كلمة، كلمة، كلمة»، في الحياة العادية نادرا ما نشاهد تطابق الكلمات مع الحركات، الكلمات والأفعال، الكلمات والأفكار، عادة الكلمات والحالة النفسية والتصرفات الجسدية تتطور على مستويات مختلفة ، إنها تتفاعل فيما بينها، أحيانا تكرر الواحدة معنى الأخرى، أحيانا تتعارض، وقد يحصل بينهما صراع، وقد تفضح إحداهما الأخرى، وفقط حينما ندرك المعنى الحقيقي لما يحدث على هذه المستويات يمكننا الوصول إلى مسألة عدم التكرار، فقط عند مواجهة الحدث للكلمة المنطوقة، وسيرهما في اتجاهين مختلين يولد ذلك النموذج الفريد الذي أسميه نموذج الملاحظة.
في الأدب أو المسرح نعبر بواسطة الحوار عن الرؤية الفنية (عادة وليس دائما)، في السينما يمكننا أيضا أن نعبر عن الأفكار بالحوار، كما يحصل في الحياة اليومية، ولكن السينما تعتمد على مبدأ آخر في استعمال الحوار، على المخرج أن يكون دائما كشاهد لما يقع أم الكاميرا، الكلام في السينما يمكن أن يستعمل كمؤثر صوتي (ضجيج) أو كخلفية صوتية إلخ، فعلى سبيل الذكر هناك أفلام رائعة ليس فيها حوار إطلاقا.
حوارات الشخصيات في السينما لا تعبر عما تقوم به، وهذا شيء جيد، لذلك فإن طريقة كتابة حوار لسيناريو تختلف عن نظيرتها في المسرح أو الرواية أو القصة، فحتى حوارات هذه الأنواع الأدبية تختلف فيما بينها، خلاصة القول، طبيعة الشخصية، دورها وحوارها في السينما يختلف عن باقي الفنون الأخرى.
ما هي طبيعة الشخصية في السينما؟ عادة هي شيء تقريبي، جد مجازي، لا يشبه كثيرا ما يقع في الحياة، وقد عولج هذا الإشكال بنجاح مرات عديدة في السينما.
لنأخذ مثلا فيلم «تشاباييف»، إنه فيلم غريب، فلقطاته تبدو رائعة، ولكن توضيبه كان مقرفا، تحس وكأن اللقطات صورت لتوضب بطريقة أخرى غير هذه، إذ يبدو الفيلم كخط مستقيم به فراغات.
بابوتشكين (إحدى شخصيات الفيلم) يبدو مقنعا و شاعريا، ولكنك تحس وكأن اللقطات المصورة لا تكفي لبناء الشخصية، النتيجة شخصية ضعيفة ومباشرة، معالجة بدائية، بما في ذلك الفيلم ككل، اللقطات تبدو مقطعة ولا علاقة لبعضها ببعضها الآخر، أعتقد أن النتيجة جاءت عكس ما خطط له مؤلفو الفيلم.
في فيلم «المدير العام» (فيلم روسي من إخراج ألكسي سالتيكوف سنة 1964ـ المترجم) نجد هذه الطريقة في بناء الشخصية، طريقة تعتمد على مبدأ «البطل، إنسان يشبهنا»، غير أن هناك طرقا أخرى، نتذكر على سبيل المثل فيلم «Umberto D» (من إخراج فتوريو دي سيكا سنة 1952- المترجم).
عادة ونحن نشاهد بعض الأفلام نصطدم بذلك التخطيط في بناء الشخصية، ونجد أنفسنا وبشكل عفوي نتخيل ذلك المؤلف جالسا إلى مكتبه يفكر في طريقة مثلى لحكاية قصته بطريقة جذابة و ممتعة، نحس بذلك الجهد الخارق الذي يبدله مهما كلفه الأمر لكسب المتفرج، وهذا مبدأ من مبادئ السينما التجارية، حيث تعتبر الفرجة هي أساس العمل السينمائي، وليس حقيقة وواقعية الشخصية، يتم التخطيط لتلك الشخصيات في تلك النوعية من الأفلام بطرق معروفة، فمثلا لكي نجعل من البطل الإيجابي شخصية «حية»، من الضروري أولا أن نصوره في وضع مقرف وغير جميل.
وحينما يتعلق الأمر بعمل سينمائي حقيقي، بعمل رائع، فإننا نعمل بمبدأ «الشيء في ذاته»، فالشخصيات عادة غير مفهومة كما في الحياة، إذ أننا كلما تحدثنا عن الأساليب و الطرق التي قد تساعدنا على جعل العمل «ممتعا» كلما لامسنا واقتربنا من حدود السينما التجارية، العمل الفني الحقيقي لا يهتم بردة فعل المتفرج.
أحيانا نستمع إلى عتاب من هذا النوع: الفيلم الفلاني لا يمت للواقع بصلة، هذا شيء لا أفهمه، نوع من العبث، لأن كل إنسان يعيش هو وأفكاره وسط أحداث تقع في زمنه وحاضره المعاش، فكرة «لا يمت للواقع بصلة» يمكن أن يقولها فقط مخلوق قادم من المريخ.
كل الفنون تهتم بالإنسان، حتى في اللوحات التي تصور فقط مناظرا طبيعة، أحيانا نستمع إلى أن هناك نقصا في تناول الإنسان في السينما، أو عدم اهتمام هذا الفن بمواضع تعود على المجتمع بالفائدة، أرى أن ربط السينما بموضوع ما وبشكل مباشر بغية التأثير في ميدان ما أو الحصول على نتيجة ما لا يجدي نفعا. أعتقد أن الفن الحقيقي يضع دائما الإنسان نصب عينه، الإنسان أهم موضوع في السينما.
أريد أن أذكركم بمقولة رائعة، شهيرة ومنتشرة ولكننا دائما ما نتناساها، قال إنجلز مرة «كلما أخفى المؤلف وجهة نظره، كان ذلك أفضل للعمل الفني».
ماذا يعني هذا؟ حسب فهمي، فإن الحديث هنا لا يتعلق بانعدام النزعات في المعالجة ـ كل عمل فني يحمل بين طياته نزعة ماـ بقدر ما يتعلق بضرورة إخفاء المؤلف للفكرة وتبطينها، لكي يحصل العمل الفني على بعد حي وإنساني وذي شكل إبداعي يخفي بين طياته الفكرة المباشرة، وجهة نظر الكاتب يتم توظيفها مع مكونات أخرى، وهي تعتبر نتاجا لعملية تفكير طويل ومعاينة للواقع، يجب التذكير بأن الفنان يفكر عادة عبر صور بلاغية وفقط بهذه الطريقة يمكنه أن يوضح علاقته بالحياة.
السينما تهتم بالإنسان، ولا يمكن لها أن تهتم بشيء آخر غير الإنسان، وهذا يعني أنه لا يمكن لها أن تخرج عن النظرة الإنسانية، بمعنى النظر إلى الإنسان من خارج الإنسان، أو من وجهة نظر غير إنسانية، لقد واجهت ذلك مرتين في حياتي العملية، في فيلم «Solaris» (فيلم أخرجه تاركوفسكي سنة 1972) رأيت أنه يجب علي أن أصور إحدى اللقطات بنظرة غير إنسانية، متخليا عن الحس الإدراكي البشري التقليدي، أقصد لقطة محاولة إنتحار «Khari» وعودتها التدريجية، إلا أن ذلك لم ينجح، وبدا لي أنه لا يمكن فعل ذلك إطلاقا.
هناك قوانين تتحكم في البناء الدرامي للشخصية في الأدب، الشعر وحتى الرسم، ما قام به شكسبير في مسرحياته كان من المستحيل القيام به في الأدب، ففي المسرح الكلاسيكي تتحكم المفاهيم والرؤى الفلسفية في الشخصيات، فشخصيتي هاملت وماكبث مثلا لا يمكن اعتبارها شخصيات بقدر ما يمكن اعتبارها نسقا ورؤية فلسفية ووجهة نظر، وهذا لا يمكن القيام به في الأدب أو الشعر لأن ذلك سيبدو تخطيطا نمطيا للشخصية، وهذا لا يخص فقط شكسبير، بل يخص أيضا بن دجونسون، بيرانديللو، أستروفسكي، ذلك أن هذه الطريقة تبقى هي الطبيعية في بناء الشخصيات في المسرح. حاولوا أن تجربوا انطلاقا من هذا المبدأ، أي أن تكتبوا عملا أدبيا دون أن تكون عندكم شخصيات، وستفهمون أن ذلك مستحيل، شخصيا لم أصادف قصة ولا رواية سواء من العصور الوسطى أو الحديثة لم تعتمد في بنائها على البعد الإنساني (شخصية ما)، إذا بدأنا في السينما بالاشتغال على الشخصيات بالطريقة المستعملة في الأدب، فلن يحالفنا النجاح، أقصد هنا طريقة أولئك الذين يتعاملون مع الفيلم كمجرد رواية. وأعتقد أن هذا خطأ كبير والمسألة لا تعدو كونها محاولة لاستلهام طرق بناء الشخصيات في الأدب و نقلها إلى السينما.
هذا سيكون أدبا متبثا على الفيلم الخام، وإذا حاولنا كذلك نقل الطبيعة المسرحية للشخصيات إلى السينما فلن ننجح أيضا لأن الشخصيات ستبدو مصطنعة ونمطية.
من هنا يجب أن تكون للسينما طريقتها الخاصة في طرح المواضيع، وهذا لا يعني أنه يجب على المخرجين العمل بطريقة واحدة، هذا فقط يعني أن للسينما موادها الخاصة، وعلى كل مخرج أن يتعامل مع تلك المادة بأسلوبه الخاص، وتلك المادة هي الزمن.
لاحظوا أنه كلما لامس المخرج أنواعا أخرى من الفنون واستغلها في عمله، نصل إلى نقطة جمود، أو منطقة ميتة، ويتوقف الفيلم عن الحياة، إن استخدام كل ما هو غريب عن السينما يخل بتماسك العمل، لا تصمد تلك المقاطع من الفيلم التي تستعمل كل ما لا يدخل في السينما كفن قائم بذاته.
غالبا و أثناء المناقشات التي تعني بالسينما، ما نسمع بـ «الحدث” كأساس من أسس العمل الدرامي، ماذا يقصد ب “الحدث»؟ الحدث شكل من أشكال وجود الأشياء والوقائع في الزمن، ولا يجب أن يلعب دورا أكبر من ذلك، الحدث ليس سيخا ندخل فيه كل وقائع الفيلم لإنجاح الفرجة، سيكون الأمر أقرب إلى المسرح.
نحن نادرا ما نتأمل الحياة، لا نعيرها الانتباه الواجب، رغم أن الحياة أساس ونبع الفنون، نمارس الفن في المكاتب على طريقة جول فيرن، مما يتولد معه مجموعة كبيرة من الأكليشيهات واللغات المصطنعة، أصبحنا نحكي قصصا وأقاصيص بلغة غير لغتنا، لغة لا تناسبنا، نكرر لبعضنا البعض حكايات لا تفيدنا ولا تفيد الآخرين.
يمكننا بهذه الطريقة أن نجذب فئة من المتفرجين، وأن نحصل أرباحا من العروض، حكي لي مرة عن قصة وقعت لرجل محكوم بالإعدام زمن الحرب، بتهمة الهرب من الخدمة العسكرية أو الخيانة، لا أذكر التفاصيل، حكم على الرجل ومجموعة أخري بالإعدام رميا بالرصاص، أوقفوهم إلى سور مدرسة ابتدائية، وكان الجو ربيعا ولم يذب كل الثلج الذي كان يغطي الأرض، فانتشرت برك من الماء هنا وهناك، وقبل أن يتم إطلاق الرصاص، طلب منهم أن يخلعوا معاطفهم وأحذيتهم، قام كل الرجال بنزع ملابسهم وأحذيتهم وألقوها على الأرض، أما رجلنا فقد نزع المعطف، طواه بشكل جميل، بدا وكأنه يفكر في شيء ما، تم بدأ يمشي هنا وهناك إلى أن وجد مكانا جافا فوضع فوقه المعطف وانصرف إلى الصف ينتظر تنفيذ الحكم، بعد لحظات بدا ملقى على الأرض وقد فارق الحياة، وبدا أنه لن يحتاج إلى معطفه مرة أخرى، لم يكن الرجل لحظات قبل ذلك يفكر في شيء آخر غير الموت، ولكنها العادة الأوتوماتيكية التي تدفع بعض الناس إلى القيام بمهامهم مهما كانت الظروف.
في آخر المطاف، فمن أهم مميزات السينما الدقة، في الأيام القليلة الماضية، ظهر مخرج موهوب من مدينة لينينغراد، اسمه ألكسي جيرمان، أخرج فيلما رائعا «عشرون يوما بلا حرب»، في هذا الفيلم، ورغم غياب الكمال، هناك مقاطع تنبؤنا بميلاد سينمائي كبير، و رغم أنه يحتاج إلى مزيد من الوقت ليتعلم، يمكنني أن أعدد أسماء معلمين كبار في السينما لا يضاهون موهبته، لا يجب أيضا أن نبخس مؤلف الفيلم حقه، هناك مقاطع جد رائعة في الفيلم، مشهد المظاهرة في مصنع مدينة طشقند، مشهد جد رائع، صور بحرفية كبيرة، تصيبك الدهشة وتتساءل كيف أمكن لإنسان أن تخطر بباله تلك الفكرة وهو لم يعش الحرب، المسألة ليست مسألة معايشة حرب من عدمها بقدر ما هي عملية إحساس و كيف سننجزه على أرض الواقع.
من المفيد أن تشاهدوا فيلمي المخرج سيرجي بارادجانوف، فيلمه الثاني على الخصوص، أفلام المخرج أوتار يوسيلياني الثلاثة، هؤلاء كلهم مخرجون يتميزون بـ «الحفر»، لأنهم يفهمون مدى أهمية عمق الأفكار في السينما، وستفهمون أنهم لا يتشابهون فيما بينهم، وأن أساليبهم تختلف، ومواضيعهم كذلك.
لكي تقتربوا من الكمال في أفلامكم، عليكم أن تفهموا الأشكال الموسيقية: الفوغا ( صنف من التأليف الموسيقي يعطي الانطباع للمستمع بمشهد هروب أومطاردة – المترجم )، السوناتا، السيمفونية..إلخ، فالفيلم أقرب إلى البناء الموسيقي، ليس مهما منطق تسلسل الأحداث بقدر ما هو مهم شكل تسلسل تلك الأحداث على الشاشة، الزمن شكل من الأشكال.
النهاية مهمة في العمل السينمائي، كالمقطع الختامي في القطعة الموسيقية، تتابع الأحداث والشخصيات بشكل كرونولوجي ليس مهما، الأهم هو منطق القوانين في تتابع الجمل الموسيقية وتصادمها إلخ، في فيلم «المرآة» استخدمت هذه القواعد.
الدراما السينمائية تشبه الشكل الموسيقي، لا تعتمد الموسيقى على المنطق، بل تلعب على التأثير في المشاعر والعواطف، والتأثير فيهما لا يتم إلا بكسر التسلسل في الحكي، وهذا ما تمثله الدراما السينمائية. لعبة التتابع وليس التتابع بحد ذاته.
ليست مهمة المخرج البحث عن المنطق أو الحكاية، وإنما تطوير الأحاسيس، ليس من قبيل الصدفة أن تشيخوف حينما كان ينتهي من كتابة قصة كان يلقي بالصفحة الأولي في صندوق المهملات، كان بذلك يحرر الموضوع من «الدافع» ويتحرر من «المنطق العقلاني»، فتمضي الأشياء في إطارها وتحولاتها الطبيعية، كلما كانت المادة الفيلمية المصورة جيدة كلما تكسرت الدراما وابتعدت عما خطط له.
الصورة الفنية الحقيقية لا تخضع لتفسير عقلاني، ولكنها تمتلك خصائص حسية لا تقبل التفسير الواحد، لذلك فإن لا منطقية البناء الموسيقي أكثر دقة وفنية من المنطق العقلاني، خلاصة القول، الفن هو خلق معادلة بين المالانهاية والصورة.
على العمل الإبداعي أن يكون قادرا على خلق الصدمة، على تطهير الروح وتنقية نفس المشاهد، أن يكون قادرا على لمس المعانات الإنسانية، ليس من أهداف الفن تعليم الناس كيف يعيشون، الفن لا يجيب على الأسئلة، بل يطرحها، الفن يحول الإنسان، يجعله قادرا على تقبل الخير، يحرر طاقته الروحية، تلك هي رسالة الفن.