مراجعة «أوراق متساقطة» | الحب في مدينة هلسنكي المُوحشة
كان (فرنسا) ـ نسرين سيد أحمد
«أوراق متساقطة ـ Fallen Leaves » عنوان فيلم المخرج الفنلندي المخضرم آكي كوريسماكي، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته السادسة والسبعين (16 إلى 27 مايو الجاري)، هو أغنية فرنسية كلاسيكية شهيرة تحمل الكثير من الشجن في موسيقاها وكلماتها، أغنية شدا بها عبر السنين الكثير من الأصوات وتحولت كلماتها إلى العديد من اللغات. تتبدل الأصوات واللغات ويبقى تأثير الشجن في الأغنية، وهكذا هو حال فيلم كوريسماكي الذي يمنحنا هذا الإحساس بالشجن والحنين والرغبة في الوقوع في الحب.
في أحد مشاهد الفيلم يذهب بطل الفيلم مع صديق له إلى أمسية كاريوكي في إحدى حانات هلسنكي، حيث يختار الحضور غناء أغان ذائعة الصيت بأصواتهم. يقول بطلنا لصديقه إن الرجال الأشداء لا يغنون، وإنه رجل قوي صلب لا يجدر به الغناء، وهنا تكمن مفارقة الفيلم، الذي يملؤنا بالأمل والشجن، ويجعلنا نبتسم وتغرورق عيوننا بالدموع في آن. المفارقة هي أن هذا الرجل الذي يبدو قوياً هو رجل وحيد يحتاج إلى الحب والود والصحبة.
بغتة ودون ترتيب يلتقي ذلك الرجل الوحيد الذي لا يجد الصحبة إلا في زجاجة كحول رخيص بامرأة وحيدة أخرى. لا يعرف اسمها ولا تعرف اسمه، يمضيان بعض سويعات معاً في الحديث، ولا تخبره باسمها، لكنها تمنحه ورقة تحمل رقم هاتفها، على وعد بأنها ستخبره اسمها إذا التقيا مجدداً. لكن الورقة تضيع، وتذروها الرياح، ويصبح الشغل الشاغل لبطلنا هو أن يعثر مجدداً على تلك المرأة التي شغفته حباً ولا يعرف لها سبيلاً.
هلسنكي، حيث تدور أحداث الفيلم، ليست هلسنكي التي نتوقعها. تدور أحداث الفيلم في يومنا الحالي، ويقدم الراديو في نشراته أنباء الحرب في أوكرانيا، لكن ما نراه من العاصمة الفنلندية يحمل طابع السبعينيات من القرن العشرين.
تبدو لنا هلسنكي كما نراها في الفيلم، قابعة في فجوة زمنية لم تتغير منذ نحو خمسين عاماً، هذه هي الجماليات التي يختارها كوريسماكي لأفلامه وشخوصها. هم أشخاص من الطبقة العاملة التي همشها المجتمع، يعيشون حياة وحيدة في بيوت كما لو أن الزمن توقف بها في حقبة السبعينيات.
وهي الجماليات نفسها التي اختارها كوريسماكي لفيلمه «فتاة مصنع الثقاب» (1990) لكن بينما تواجه بطلة فيلم «فتاة مصنع الثقاب» ما تجد من العالم من ظلم بفعل عنيف مدمر، تختار بطلة «أوراق متساقطة» البحث عن الحب. الرجل القوي الذي لا يغني هو هولابا (يوسي فاتانين) وهو يعمل في موقع بناء في هلسنكي ويعاقر الخمر، عله يجد فيها بعض السلوى والصحبة. أما المرأة فهي أنسا (ألما بايوستي) وهي امرأة أربعينية تتنقل من عمل يدوي لآخر، وتعيش في شقة صغيرة ورثتها عن جدتها.
(أنسا وهولابا) شخصان وحيدان في مدينة موحشة باردة يجدان بعض الألفة والدفء مع بعضهما بعضا. يذهبان في لقائهما الثاني إلى السينما، لكنها ليست أي سينما، بل دار عرض تتخصص في الأفلام الفنية، وهو مشهد فيه من السخرية المحببة الكثير. يفقد هولابا رقم آنسا، ويفتش عنها في أرجاء المدينة، بينما تجلس هي محدقة في هاتفها علّه يتصل بها كما وعدها.
وحين يلتقيان مجدداً يحزننا اللقاء بقدر ما يسعدنا، نفرح بمحاولات هولابا التأنق قبل اللقاء، وشراءه باقة زهور، ونسعد بمحاولات أنسا ترتيب شقتها الصغيرة. لكننا نحزن عندما تخبر أنسا هوبالا بأنها لا تريد رجلا يعاقر الخمر مثل أبيها الذي قتله الشراب وترك أمها وحيدة.
يتكرر في الفيلم الفقد ثم اللقاء. يلتقيان لكن يختلفان، أو تفرقهما الأقدار والأحداث، لكنهما دوماً يسعيان للقاء، أو ربما تجمعهما الأقدار معا. ذات يوم تسير أنسا لتجد كلباً وحيداً فتحنو عليه وتتبناه ليصبح صديقها وجليسها في بيتها الصغير، جمعت الأقدار أنسا بهذا الكلب الوحيد كما جمعتها بهولابا الوحيد أيضاً.
يمتلك كوريسماكي عالماً مميزاً وموهبة فذة في اختيار أجواء ووجوه وممثلين يعبرون عن عالمه بصدق تام. أنسا وهولابا لا يقولان الكثير، وقد لا نتوقع من ملامحهما التي أجهدتها السنين وصعوبة العيش أن تكون ملامح اثنين يعيشان قصة حب، لكن هكذا هو عالم كوريسماكي، فهو عالم نجد فيه الحب حيث لا نتوقعه.
«أوراق متساقطة» يعيد إلى الأذهان فيلم «على الروح والجسد» للمخرجة المجرية إلديكو إنييدي. أبطال الفيلمين أشخاص لا يتوقعون الوقوع في الحب ويتعايشون مع أيامهم وأجوائهم الصعبة، لكن الحب يجدهم على حين غرة فيبدل عالمهم ومنظورهم للحياة كل التبديل.
في «أوراق متساقطة» يقدم كوريسماكي فيلماً بقلب كبير، مفعماً بالحب ينتصر لأولئك الوحيدين الذين قست عليهم الأعوام. هو عمل يشعرنا بالدفء والألفة ويجعلنا نرغب الوقوع في الحب.