«ملكة الصحراء» .. خيبة أمل كبيرة لفيلم يحمل توقيع فيرنر هيرزوغ
«سينماتوغراف» ـ ملكة أمين
شكل فيلم «ملكة الصحراء ـ Queen of the Desert» (الذي يعرض حاليا في صالات السينما بالخليج وبعض الدول العربية) خيبة أمل كبيرة، حيث جاءت النتيجة على الشاشة في النهاية فيلما تقليديا يتناول قصة حب رومانسية ورحلات في الصحراء العربية، ويصعب أن نصدق أنه فيلم يحمل توقيع الألماني فيرنر هيرزوغ نفسه مقارنة بأفلامه ومغامراته السابقة.
وتكمن مشكلة فيلم «ملكة الصحراء» الأساسية في السيناريو الذي يفتقد الترابط الدرامي، ولم يستطع المخرج أن يقارب الغنى والتعقيد الكبيرين اللذين ميزا شخصية مثل «مس بيل»، الرحالة والمستكشفة والآثارية والمستشرقة المهتمة بدراسة اللغات والتاريخ القديم والمختصة بشؤون العشائر العربية، فضلا عن كونها ضابطة الاستخبارات لاحقا والسكرتيرة الشرقية والمستشارة للمعتمد السامي البريطاني في العراق، والتي كان العراقيون يلقبونها بـ«الخاتون» لحجم تأثيرها في سياسة بلدهم، ويلقبها البعض بصانعة الملوك.
ومع تتابع أحداث فيلم «ملكة الصحراء» يعترضك السؤال المشروع.. هل أراد مخرجه ومؤلفة هيرزوغ رد الاعتبار إلى المستكشفة «غيرترود بيل» التي لعبت دوراً عظيماً في رسم خارطة الشرق الأوسط كما نراه اليوم؟، فرغم أن الفيلم تناول جانب السيرة الذاتية وفي الخلفية الجانب التاريخي السياسي، إلا أن العمل بشكل عام جاء باهتاً وتابعاً لقصص حب هشه وغير معمره.
يقدم الفيلم عرضاً لأحداث 12 عاما من سيرة «غيرترود بيل» والذي قامت بدورها الممثلة نيكول كيدمان الاسترالية الأصل الحاصلة على جائزة الأوسكار .. ورغم أن شخصية غيرترود بيل متعددة الأبعاد وعميقة بعمق الدور التاريخي الذي لعبته في منطقة الشرق الأوسط ، فقد جاء أداء نيكول كيدمان خاليا من أي عمق، وساعد ذلك على تركيز القراءة المباشرة التي تتناول السيرة الذاتية، وتتوارى وراءها الدلالات العميقة للفيلم، التي نلاحظها في الصحراء الخالية من البشر والمؤثرات الموسيقية التي تشبه النحيب وأصوات طيور جارحة وكأنها بلا بشر تمثل لهم وطناً، رغم غنى الحقبة التاريخية التي عاشت فيها وأسهمت في صنع خياراتها في عالم قديم يتقوض ونشوء عالم جديد وتوزيع جديد للنفوذ في العالم بين القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
ورغم أن المخرج اختار أن يفتتح فيلمه باجتماع شهير حضره ونستون تشرشل، وزير المستعمرات آنذاك «أدى دوره الممثل كريستوفر فلفورد» لتقاسم النفوذ في مناطق الامبراطورية العثمانية «الرجل المريض» بعد الحرب العالمية الأولى، إلا أنه لم ينشغل بتعقيدات السياسة وجعل هذه الأحداث مجرد خلفية لمغامرة بطلته في الصحراء أو قصص حبها الفاشلة.
فبدت الشخصيات السياسة مفرغة من تأثيرها الأساسي بل وأقرب إلى الشخصيات الكاريكاتيرية، كما هي الحال مع شخصية لورانس التي جسدها روبرت باتنسون وظهوره بزيه العربي المضحك، وكذلك الحال مع تشرشل وهو يقف لالتقاط صورة له أو يحاول امتطاء جمل أمام الأهرام.
من هنا جاء خيار هيرزوغ لإغفال السنوات العشر الأخيرة في حياة بيل وتحديدا عملها في العراق، ودورها في صناعة سياسة هذا البلد وحدوده واختيار ملكه بل وما حكم مساره المستقبلي.
وشاهدنا في واقع الحال أنه لم يسبر أغوار عالم هذه الشخصية المعقدة الغني، وانتهى إلى تقديم صورة مبتسرة ومسطحة لعاشقة رومانتيكية تداري خيبتها العاطفية برحلات الى الصحراء تبتعد فيها عن ذكرياتها المؤلمة، وافتقر الفيلم الى الصراع الملحمي ومال اكثر للتركيز على حياة بيل العاطفية.
رغم أن «غيرترود بيل» تركت تراثا غنيا من الرسائل وثق أدق تفاصيل حياتها اليومية وانطباعاتها عن الناس والواقع السياسي المحيط بها؛ إذ درجت على كتابة يومياتها وتوثيقها في رسائلها إلى عائلتها على مدى عقود طويلة، فضلا عن عدد من الكتب والتقارير التي وثقت بعض رحلاتها ومشاركاتها في التنقيبات الأثرية أمثال كتابها عن سورية الصادر العام 1907 الذي وثقت فيه رحلتها الأولى في فلسطين والشام مرورا بمناطق الدروز وكتابها المشترك مع الآثاري وليم رامزي «الف كنيسة وكنيسة»، فضلا عن رحلتها من حلب مع مجرى نهر الفرات إلى قصر الإخيضر في العراق التي وثقتها في كتابها الصادر العام 1909 ثم عودتها العام 1911 إلى قصر الاخيضر وإصدارها كتابا ضخما عنه صدر العام 1914.
ولقد أهمل السيناريو الذي كتبه هيرزوغ نفسه هذا الغنى التوثيقي الكبير في حياة بيل، واستند على ما يبدو على جزء من السيرة التي كتبتها مطلع الستينيات اليزابيث بورغوين في جزأين بالاستناد إلى رسائلها التي أعادت نشر بعضها كاملة بعد أن كانت تعرضت لرقابة وحذف الكثير من التفاصيل في طبعتها الأولى العام 1927.
بدت بيل في فيلم هيرزوغ فتاة أرستقراطية إنجليزية ورومانتيكية تعشق المغامرة والسفر وذكية تخرجت من اكسفورد بمرتبة شرف تقنع والدها بإرسالها في رحلة إلى طهران؛ حيث يقيم قريب العائلة الدبلوماسي السير فرانك لاسلز وزوجته، وهناك تقع في حب دبلوماسي شاب يدعى هنري كادوغان (الممثل جيمس فرانكو) يعلمها الفارسية ويشتركان في حب الشعر، ويقرران إعلان خطوبتهما لكنهما يواجهان معارضة والديها اللذين ينصحانها بالتريث لسمعة كادوغان كمقامر مثقل بالديون، وأثناء عودتها إلى بريطانيا لإقناع والديها ينتحر كادوغان. فتظل مخلصة لحبها هذا وتلقب نفسها بالأرملة وتحاول العودة إلى الشرق وخوض رحلات في الصحراء بعد تلك التجربة، ثم تتعرف على كابتن في الجيش البريطاني يدعى تشارلز دوتي- وايلي (الممثل داميان لويس)، وتخوض تحربة حب جديدة معه، لكنه كان متزوجا وعندما يفاتحها بتطليق زوجته والزواج منها ترفض أن تكون سعادتها على حساب تعاسة امرأة أخرى وتدمير عائلتها وتهرب من هذا الحب في رحلة جديدة تقرر فيها استكشاف صحراء الجزيرة العربية.
وفي رحلة محفوفة بالمخاطر بسبب الصراع بين القبائل المتنافسة؛ ينتهي أمرها باحتجازها لدى قبائل شمر حائل حتى عودة أميرها الذي كان غائبا في رحلة، وسط جو من التوتر والقتال بين أتباعه وأتباع أمير نجد عبد العزيز آل سعود، وهنا يشير الفيلم الى إدراك مس بيل لنفوذ ابن سعود المتزايد في الجزيرة العربية واضمحلال نفوذ منافسيه.
وتتواصل جذوة حبها من جديد للكابتن تشارلز دوتي- وايلي بالتأجج والخفوت عبر رسائل أو لقاءات متفرقة في الشرق الأوسط أو لندن، قبل أن تنتهي هذه القصة نهاية مأساوية بمقتل الكابتن دوتي- وايلي في الحرب العالمية الأولى.
وفي نهاية الفيلم، نلتقي «غيرترود بيل» بشخصيتين جديدتين – فيصل وأخوه عبد الله، من شيوخ العائلة الهاشمية القديرة اللذين تم تنصيبهما من قبل البريطانيين ليصبحا حاكمين للعراق، وما يعرف الآن بالآردن.
ويطلقان الحاكمان الجديدان، تزلفا، اسم «الخاتون» على «مس بيلّ». كما يسميانها «صانعة الملوك»، بينما تقوم هي بترتيب الأمور لهما ليقوما بدورهما في الحكم. وبقدر ما يتعلق الأمر بالفيلم، فإن ما سيتجلى بعد ذلك في هاتين الدولتين لم يكن بأي حالٍ من الأحوال ذو شأنٍ أو أهمية. ومع تترات نهاية الفيلم تعرض الأسماء فوق رمال متحركة.