نجلاء قموع تكتب من تونس: «ريش».. فيلم غير تقليدي في خياراته الفكرية والبصرية فهل ينصفه التاريخ؟ !
تونس: «سينماتوغراف» ـ نجلاء قموع
عبثية سينما كوريسماكي.. شخوص جيم جارموش وتقنيات روي أندرسون عوالم متفردة وتجارب مغايرة في صناعة تسيطر عليها كبرى استوديوهات الأفلام في العالم.. هؤلاء المخرجين وغيرهم من صناع الأفلام المتمردين على المألوف والتقليدي، يرفضون في بداية تجاربهم وأحياناً يحاربون.. فينصفهم الزمن وأحياناً بعض الجوائز، التي مازالت محافظة على جانب من مصداقيتها..
في هذه الصناعة السينمائية وتحديداً المصرية منها بدأ عمر الزهيري يخطو خطواته الأولى بفيلم “ريش” والذي يأتي بعد فيلمه القصير – حين كان طالباً- “ما بعد افتتاح المرحاض العام في الكيلومتر 375” المقتبس عن “تشيكوف” ومن هنا يمكن لمشاهد “ريش” أن يستوعب مدى شغف الزهيري بالتفاصيل وهوسه بالعوالم النفسية لشخصيات فيلمه دون أن يسقط في فخ محاكمتهم أو التعاطف معهم وكأنه يأخذ مكانا ثانيا بجوار المتفرجين ليشاهد أين يأخذنا الفيلم.. يقطع الزهيري مع التوقعات و”كليشيات” السينما، يمعن في اكتشاف واقع إنساني متأزم لدرجة العبث .. يرسم لوحة رمادية الألوان تحمل أكثر من معنى .. ووراء قبحها يكمن عمق لا نهاية له.. لا يسلبنا مخرج “ريش” مساحتنا في الخيال، الاكتشاف والبحث معه عن حقيقة عالمنا البشري، الذي أصبح في مواقع كثيرة مشابه لعالم الحيوان..
“رب أسرة يتحول لدجاجة”.. الحدث الأبرز في فيلم يقطع مع الحبكة السينمائية الكلاسيكية، فعوالم عمر الزهيري الفكرية والجمالية في “ريش” لا تهتم بالحكاية البسيطة والرسائل القائمة على الخطابة الفارغة.. يسائل المخرج ذاته وجمهور فيلمه عن هذا الواقع المزري، هل تكفي الحبكة الكلاسيكية لنقل ما نعيشه !
نعتقد أن المخرج المصري الشاب في فيلمه الروائي الطويل الأول قد وفق في خياره القائم على الواقعية السحرية والمراوحة بين الكوميديا السوداء في أقسى تجلياتها العبثية والواقع الاجتماعي المتأزم ولعّل عمله الجلي على “المكان” في الفيلم بكل تفاصيله من ديكور، غرافيك، حركة الكاميرا والممثلين، اللقطات الثابتة، التوظيف العبثي للموسيقى وغيرها من التقنيات، يكشف مدى حرفيته ، موهبته وتمكنه من لغته السينمائية.
لم تحمل شخوص “ريش” أسماء، فالمهمشون غير المرئيين لا يؤثر وجودهم من عدمه .. هذا الخيار كان متعمدا في الرؤية الفنية لعمر الزهيري كما كان اختياره لأبطال لم يقفوا سابقا أمام الكاميرا ومنهم بطلة الفيلم دميانة نصار، المرأة الخاضعة لسلطة زوج تحول إلى دجاجة لتجد نفسها في مواجهة مع صعوبات الحياة والمجتمع بتناقضاته ونظرته للمرأة.
“ريش”.. لوحة سريالية تدفعنا للتفكير في معاني الإنسانية، فالرجل الذي يتحول إلى دجاجة برمزيتها الاجتماعية والنفسية، الحمار الوحشي في خلفية المشهد، الحالة الهسترية لقرد يقفز على النافذة، مجزرة الأبقار وغيرها من مشاهد الحضور العبثي للحيوان في الفيلم هي انعكاس لوحشية عالمنا.. على غرار اللقطات المقربة والطاغية للورقات النقدية القديمة صورة عن مظاهر “تشييء” الإنسان في عصرنا الراهن.
فيلم عمر الزهيري “ريش”، الذي عرض هذه الأيام ضمن فعاليات أيام قرطاج السينمائية وسبق أن حاز على جائزة أسبوع النقاد وجائزة الإتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى) في مهرجان كان السينمائي وأفضل فيلم عربي في مهرجان الجونة السينمائي وأفضل فيلم في مهرجان بينجاو السينمائي الدولي في الصين، قدم مقترحاً سينمائياً متفرداً لمخرج قد يختلف حول رؤيته الفكرية والبصرية الكثيرون ولكن المؤكد أن هذا الاختلاف سيأخذ عمر الزهيري بعيدا في مشواره السينمائي .. يكفي أنه منحنا أكثر من قراءة لمنجز فني وفتح باب النقاش والتفاعل حول فيلم قد يكون بداية لموجة سينمائية مغايرة، صناعها من الجيل الجديد للسينما المصرية.