ملفات خاصة

«أبو سيف».. 41 فيلماً في 50 عاماً

«سينماتوغراف» ـ محمود درويش

قليلون من المخرجين الذي عملوا بالسينما المصرية استطاعو أن يتركوا علامة مؤثرة فيها، وأن تكون لهم بصمة خاصة تكتشفها بمجرد مشاهدة أعمالهم. وفي هذا الإطار، يجمع الكثير من النقاد المصريين والعالميين على أن المخرج الراحل صلاح أبو سيف كان صاحب أسلوب مميز وواضح ووضع أكبر بصمة تركها مخرج على السينما المصرية من خلال 41 فيلما قدمها على مدى 50 عاما.

ويرجع هؤلاء ذلك إلى اعتبار ابوسيف رائد الواقعية في السينما المصرية التي دخلها بالصدفة قبل أن يبدأ حتى دراستها.

ولذلك لم يكن غريبا أن يأتي 11 فيلما من أفلامه ضمن أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، من بينها 3 أفلام بين العشرة الأول، وهي أفلام «شباب إمرأة» 1965، وجاء في المركز السادس، و«بداية ونهاية» 1960، وجاء في المركز السابع، و«الفتوة» 1957، وجاء في المركز العاشر.

وإلى جانب الأفلام الثلاثة التي صنفت ضمن افضل 10 أفلام مصرية، اختيرت ثمانية أفلام أخرى من أفلام صلاح أبوسيف ضمن افضل 100 فيلم مصري، وهذه الأفلام هي: «الزوجة الثانية» 1967، وجاء في المركز السادس عشر، و«القاهرة 30» 1966، وجاء في المركز الثامن عشر، و«ريا وسكينة» 1953، وجاء في المركز السابع والعشرين، و«السقا مات» 1977، وجاء في المركز الحادي والثلاثين، و«لك يوم يا ظالم» 1951، وجاء في المركز السابع والأربعين، و«بين السماء والأرض» 1959، وجاء في المركز الثامن والخمسين، و«الوحش» 1954، وجاء في المركز السبعين، و«أنا حرة» 1959، وجاء في المركز السابع والتسعين.

وتحمل وجهة النظر تلك قدرا كبيرا من الحقيقة حيث حرص المخرج الراحل على تجسيد فلسفته الخاصة في عمله والتي مفادها أن: «الواقعية تعني أن ترى الواقع وأن تنفذ ببصرك وبصيرتك في أعماقه وأن تدرك وتعي جذور الظاهرة، لا أن تكتفي برصد ملامحها فقط». وهذا بالضبط ما طبقه في أفلامه.

وقد يرجع ذلك إلى بداية عمل صلاح أبوسيف كمونتير في ستوديو مصر، ثم رئيساً لقسم المونتاج بالأستوديو لمدة عشر سنوات حيث تتلمذ على يده الكثيرون في فن المونتاج. وهناك التقى بكمال سليم مخرج فيلم العزيمة، وعمل مساعدا له في إخراج هذا الفيلم الذي ينظر إليه على أنه أول فيلم واقعي مصري.

ولعل هذه البداية الجادة في مجال الإخراج هي التي صاغت فلسفة ابوسيف وعززها تأثره بتيار الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية حين قضى بعضا من الوقت لدراسة السينما في إيطاليا.

وفي إطار حرصه على التأكيد على أسلوبه الخاص في الإخراح، كان يحرص  على الاشتراك في كتابة السيناريو لجميع أفلامه، حيث كان يعتبر أن كتابة السيناريو أهم مراحل إعداد الفيلم إنطلاقا من إيمانه «بأنه من الممكن عمل فيلم جيد بسيناريو جيد وإخراج سيء ولكن العكس غير ممكن». لذا فقد كان يشارك في كتابة السيناريو لكي يضمن أن يكون كل ما كتبه السيناريست متفقاً مع لغته السينمائية.

لذلك لم يكن غريبا أن تعتبره الناقدة الألمانية «اريكا ريشتر» استاذ الأفلام الواقعية في مصر. كما اعتبرت أفلامه بمثابة العمود الفقري لهذا الإتجاه. وقالت إن تلك الأفلام يمكن من خلالها دراسة أهم الموضوعات والأساليب والحلول الفنية التي يلجأ إليها الفيلم الواقعي في مصر للقضايا التي يواجهها ويتصدي لها.

كما كتب الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي «جورج سادول» عن أفلامه بقوله: «لقد خلقت أفلام صلاح أبو سيف في مصر تيارا لا تقل فاعليته عن تيار الواقعية الجديدة الذي نشأ في ايطاليا، وأدى إلى خلق موجات جديدة في سينما فرنسا وانجلترا وأميركا».

وقد عين صلاح أبوسيف رئيساً لأول شركة سينمائية تابعة للقطاع العام في الفترة من 1961 وحتى 1965، وأستاذاً في المعهد العالي للسينما، وعميداً لمعهد السيناريو في القاهرة. كما ورأس مهرجان قرطاج السينمائي الدولي عام 1976.

شغف سينمائي مبكر

ولد صلاح أبو سيف في يوم 10 مايو عام 1915 في محافظة بنى سويف مركز الواسطى قرية الحومة، وتوفي في 22 يونيو 1996.

 بدأ شغفه بالسينما منذ وقت مبكر، وكان في طفولتة مأخوذا مسحورا بالسينما الي اقصي حد، حيث كان لا يكتفي بالذهاب الي سينما واحدة في الأسبوع. ولذلك كان يقسم مصروفه الأسبوعي بين أكثر من سينما.

وكان اهم حدث في حياة صلاح أبوسيف في تلك الفترة عثورة علي كتاب عن السينما اسمة «كيف تكون ممثلا سينمائيا» بقلم شفيق حنين وبه مقدمة بقلم جمال الدين حافظ عوض. وكان هذا هو أول كتاب قرأة صلاح أبوسيف عن السينما. وقد اشتري الكتاب بقرشين فقط، لانه كان كتابا مستعملاً.

وقد أثر هذا الكتاب علي صلاح ابوسيف تأثيرا كبيرا. فقد كان حتي ذلك الحين يتصور ان الممثل هو كل شئ في الفيلم. الا انه عندما قرأ هذا الكتاب اكتشف ان هناك شخصا آخر اهم من الممثل. وكانت هذه هي أول مرة يعرف فيها أبوسيف معني كلمة «مخرج»، وفهم من الكتاب الدور الذي يقوم به المخرج في السينما.

فقد جاء في الكتاب تعريف لطيف لوظيفة المخرج كما يلي: «في الاستديو ستجد شخصا يجلس صامتاً، لا تقترب منه، ولا تحاول ان تكلمه، لان في مخه كل الفيلم».

فتح هذا الكتاب أمام ابوسيف آفاقا جديدة جعلته يحلم بان يصبح في يوم من الايام صانع افلام، ذلك الرجل الذي يجلس علي كرسي ويظل صامتا وفي مخه كل الفيلم.

متابعة ودراسة السينما

انكب صلاح أبوسيف على متابعة أخبار السينما عن طريق المجلات الفنية التي كان يحصل عليه بشتى الطرق، بل إنه اشتغل بالصحافة الفنية ثم درس فروع السينما المختلفة والعلوم المتعلقة بها مثل الموسيقى وعلم النفس والمنطق  خلال فترة عمله بشركة الغزل والنسيج بمدينة المحلة لمدة ثلاث سنوات من 1933 إلي 1936 والتي كانت فترة تحصيل مهمة في حياته وقام خلالها بإخراج بعض المسرحيات لفريق مكون من هواة العاملين بالشركة.

ولعبت الصدفة دورها حين التقى بالمخرج «نيازي مصطفى» الذي ذهب الى المحلة ليصور فيلما تسجيليا عن شركة الغزل والنسيج، ودهش نيازي مصطفى من ثقافة أبو سيف ودرايته بأصول الفن السينمائي ووعده بأن يعمل علي نقله إلي استوديو مصر، وتم ذلك بالفعل ليبدأ صلاح أبو سيف العمل بالمونتاج في ستوديو مصر، ومن ثم يصبح رئيساً لقسم المونتاج بالأستوديو لمدة عشر سنوات حيث تتلمذ على يده الكثيرون في فن المونتاج. كذلك التقي في استوديو مصر بزوجته فيما بعد «رفيقة أبو جبل» وبـ« كمال سليم» مخرج فيلم العزيمة، الذي يعتبر الفيلم الواقعي الأول في السينما المصرية، وعمل مساعدا له في ذلك الفيلم في بداية العام 1939 وقبل سفره إلى فرنسا لدراسة السينما.

وفي أواخر العام ذاته عاد أبو سيف من فرنسا بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1946 قام بتجربته الأولى في الإخراج السينمائي الروائي بفيلم «دائماً في قلبي» المقتبس عن الفيلم الأجنبي جسر واترلو، وكان من بطولة عقيلة راتب وعماد حمدي ودولت أبيض.

وفي العام 1950 عندما عاد صلاح أبو سيف من إيطاليا حيث كان يخرج النسخة العربية من فيلم «الصقر» بطولة عماد حمدي وسامية جمال وفريد شوقي كان قد تأثر بتيار الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية وأصر على أن يخوض هذه التجربة من خلال السينما المصرية.

بدء المغامرة

في عام 1950، أعد صلاح أبو سيف سيناريو لفيلم باسم «لك يوم يا ظالم» بالتعاون مع كل من نجيب محفوظ والسيد بدير. وكان فيلما إجتماعيا، يلقي الضوء على حياة إمراة تنقلب حياتها رأسا على عقب بسبب صديق زوجها المنحرف الذي يطمع فيها فيها وفي ماله، فيحاول إغراءها وإبتزازها، ثم يقتل صديقه حتى يخلو له الجو، ويتزوج من الأرملة الشابة، ويسرق أموالها وحليها، ومع الأيام يكتشف أمره ويدخل السجن.

وعرض ابوسيف السيناريو علي المنتجين لتمويل انتاجه فرفضوا مغامرته، لكن أحدهم بادره بالقول: «عليك بإنتاج الفيلم بنفسك وسأعطيك سلفة توزيع، مما اضطر أبو سيف إلي إنتاج الفيلم بالفعل، معتزما أن تكون هذه نقطة فاصلة في ممارسته السينمائية، فإما النجاح وإثبات صحة قناعاته والاستمرار وفقها، وإما الفشل والنهاية».

وقد حقق أبو سيف بأسلوبه الواقعي واقترابه من الجمهور، ما كان يصبو إليه من نجاح، ولاقي الفيلم إقبالاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً، وكان من بطولة فاتن حمامة ومحسن سرحان، ومحمود المليجي، ومحمد توفيق.

ويقول أبو سيف عن هذا الفيلم: «كان علي أن أدخل مرحلة أخري، فقررت إنتاج فيلم مأخوذ عن رواية إميل زولا «تيريزرا كان»، ولكن استديو مصر رفض إنتاج الفيلم، وكذلك كل المنتجين الذين عرضت عليهم السيناريو. مما دفعني للوقوف أمام نفسي، فهل أنا علي حق أم لا؟ وقررت الإنتاج. فبعت سيارتي، ومصاغ زوجتي وأنتجت فيلم «لك يوم يا ظالم»، وقبل عرض الفيلم بأسبوع، لم أكن أملك قوت يومي، حتي أن الخادم في المنزل كان يرثي لحالي. ». وكان «لك يوم يا ظالم» (1951) فاتحة التفكير في اجتذاب نجيب محفوظ للعمل في السينما، وفاتحة أفلام أبي سيف الواقعية، التي شكلت نقلة فنية مهمة، ليس في مشوار صلاح فحسب، وإنما في مسيرة السينما المصرية بشكل عام.

مشاكل مع الرقابة

في عام 1942، منعت الرقابة فيلمه «العمر واحد» بدعوى انه يثير غضب الأطباء فتم تغيير عنوان الفيلم الى «نمرة 6» لإقناع الرقابة بعرضه.

ويدور الفيلم حول أربعة أشخاص ينصبون على الناس عن طريق تمثيلهم أن أحدهم مات بسبب مرضه وأثناء إحد تمثيلياتهم يصر أحد المارة على دفن الميت على حسابه الشخصى فى مقابر عائلته ويصطحب عصابة النصابين لبيته وهناك يفتضح أمرهم ويتم القبض عليهم. والفيلم مجهول فى تاريخ السينما المصرية وتاريخ فنانيه وفنييه، وكان من بطولة اسماعيل ياسين، وحسن كامل، ولطفي الحكيم، وفؤاد منيب، أحمد الحداد، ومحمد راغب.

وتعرض ابوسيف لهجوم عنيف من رجال الاتحاد الاشتراكي بعد عرض فيلمه «القضية 68» لانتقاده للنظام السياسي بعد هزيمة يونيو 1967 وكاد أن يضرب خلال العرض الاول.

وفي الفيلم، يكون سكان الحارة من بينهم لجنة لخدمة أهالى الحى الذى يعيشون فيه يرأسها السيد منجد عبدالسلام صاحب منزل فى الحارة، وهو رجل طيب القلب يرى أن حل المشكلات يجب أن يكون بالمصالحة، بينما يرى أحد أعضاء اللجنة المحامى حنفى أن يكون المرجع هو القانون لأن للقانون احترامه وقدسيته، ويعارض الرأى عادل طالب الطب الذى يرى أن القانون يجب تغييره جذريا. وتتفق معه فى الرأى نبيله زميلته فى الحى وتصبح بينهما قصة حب، وتتدخل بينهما الست سنية الخاطبة التى تجرى وراء الرجال الأثرياء كبار السن كى تزوجهم من الفتيات الصغيرات طمعا فى المال، ويتصدع منزل فى الحارة، لذا يحاول الانتهازيون داخل اللجنة أن يصلحوه بينما يزداد الشرخ فى جدار المنزل ويسقط فعلاً ويموت الانتهازيون أسفل أنقاضه.

والفيلم من بطولة صلاح منصور ونعيمة وصفي ومحمود العراقي وحسن مصطفى وعزت عبدالجواد.

أيضا تعرض صلاح ابو سيف لهجوم واسع لم يعهده من قبل بسبب فيلم «حمام الملاطيلي» الذي تعرض للايقاف وعدم العرض ثم سمح بعرضه بعد تخفيف بعض المشاهد قليلا. الفيلم رغم انه  من انجح افلام صلاح ابوسيف واشهرها إلا أنه كان مليئا بالمشاهد الجريئه والعري الذي تعدي الحدود وقتها وكان له مشاكل مع الرقابة. وتعد قصة الفيلم من أوائل الروايات التي ناقش فيها حياة مثليي الجنس عن قرب، واحتوى الفيلم على بعض المشاهد العارية داخل الحمام الشعبي، وبعض القبلات الساخنة والإيماءات التي تعبر عن إعجاب الرجال بالرجال. ولايزال الفيلم ممنوعا تلفزيونياً حتى الآن،

محطات مهمة

مثل أبو سيف مرحلة مهمة في تاريخ السينما العربية عامة بأفلامه ذات المواضيع المختلفة. ففي فيلم «الوسادة الخالية» الذي أخرجه عام 1957م من بطولة عبدالحليم حافظ ولبنى عبدالعزيز وأحمد رمزي، يصور السعادة المستحيلة في إطار رومانسي راقٍ، مما يجعل هذا الفيلم من أكثر أفلامه رقة وجماهيرية. وفي فيلمه «الفتوة» 1957، بطولة فريد شوقي وتحية كاريوكا وزكي رستم، يبرع في التقاط مناخات السوق الشعبية وصراعاتها المحتدمة مصوراً، بطريقة قريبة من الملحمية، شخصيات تسعى لتجاوز الضيق الذي يطوقها.

وقد نجح صلاح ابوسيف في تقديم أفلام ذات مضمون شعبي وإنساني وحتى «اشتراكي»، محرضا بها وممهدا للسينما المصرية التقدمية، مثل «الأسطى حسن»، «شباب إمرأة»، «أنا حرة»، «الوحش»، «بداية ونهاية»، «القاهرة 30»، »لا تطفيء الشمس»، «الزوجة الثانية»، «البداية»، وحتى آخر أفلامه »المواطن مصري».

أما فيلمه «بين السماء والأرض» الذي قدمه عام 1959 فقد كان سابقا لعصره مقدما أسلوبا جديدا للإخراج السينمائي داخل مكان واحد مغلق (المصعد) يضم جميع شخوص الفيلم. ونال الفيلم تقديرا كبيرا من النقاد ولايزال ينال الشئ ذاته حتى اليوم.

وتبدو علاقة أبو سيف مع الريف في فيلم «الزوجة الثانية» الذي أخرجه عام 1967، من بطولة سعاد حسني وشكري سرحان وصلاح منصور وسناء جميل، مختلفة عن الأفلام التي اتخذت الأجواء الريفية مسرحاً لأحداثها، ففي هذا الفيلم يصبح الموضوع وثيق الصلة بقضية الفلاح والصراع الطبقي فضلاً عن روح المرح والسخرية اللتين غلفتا البناء السينمائي الذي يتناول فيه القهر الإنساني ساعياً إلى تقديم صورة واقعية صادقة لما يعانيه الريف المصري من بؤس وتخلّف وإهمال.

ويتناول فيلم «أنا حرة» الذي أخرجه في عام 1959، من بطولة لبنى عبدالعزيز وشكري سرحان وحسن يوسف، موضوع المرأة ونضالها لإثبات وجودها في عالم تكبله القيود والتقاليد الموروثة في صراعها الحضاري ليقدم واقعا وصف بجرأته حين عرض الفيلم أول مرة.

وفي عام 1986، قدم فيلم «البداية»، بطولة أحمد زكي ويسرا وجميل راتب، واختار لـه درب الضحك للتعبير عن صراعات الديمقراطية والدكتاتورية، في القصة التي تدور حول هبوط طائرة  ركاب اضطرارياً وسط الصحراء وعلى متنها حفنة من الرجال والنساء وطفل في مغامرة طريفة تضج بروح المرح والنقد اللاذعين.

وناقش ابوسيف في هذا الفيلم فكرة أن التسلط صفة أساسية في الجنس البشرى حيث بدأ الفيلم بمقولة: «حاولت أن أقدم فيلما خياليا ولكني وجدته يأخذ شكلا من واقع الحياة يظهر ذلك التسلط في مجموعة بشرية سقطت بهم طائرة في واحة صحراء مصر، بينهم الفلاح والعامل والمثقف والعالم ورجل الأعمال الانتهازي الذي يفرض سلطة على موارد الواحة ممارسا حكما شموليا على هذه المجموعة من البشر مرتكزا على سلاحه وذكائه وجبروته».

أفلام متطورة تسبق عصرها

قدم صلاح أبوسيف للسينما العربية كثيراً من الأفلام المتطورة عن قصص كتبها كتاب مصريين مثل نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي. وأتاحت له هذه الأفلام إبراز سينما الواقع والإنسان في أزماته الحياتية، ونجحت في فرض مناخ حميم أكده حنانه وقلقه وتعامله الحسي الصادق مع آلة التصوير التي عبر بها عن الشوارع والحارات الشعبية في مواضيع مستمدة من واقع الحياة المصرية ومشكلاتها فأثراها بالبعد الإنساني بأسلوب فني لايتحقق.

 ويرى صلاح أبو سيف أن أي فن لا بد أن يكون له انتماء طبقي سابق. ويعد السينما أقدر الوسائل الإعلامية على صياغة أحلام المجتمع، وإحدى الوسائل الناجعة التي تعبر عن تصورات كل طبقة في مواجهة الطبقة الأخرى. ويقول في هذا الصدد: «لا أستطيع أنا أو أي فنان آخر البدء من فراغ سياسي أو اجتماعي، فالموقف السياسي والاستراتيجي هما جزءان أساسيان من مكونات الفنان سواء كان هذا الفنان رجعياً أم تقدمياً، ذلك أن العمل الفني نشاط اجتماعي خلاق ضمن علاقات جدلية مع المجتمع بغية التأثر والتأثير. والعمل الفني هو بناء اجتماعي أو تحقيق موضوعي لفكرة المثل الأعلى الاجتماعي. ولا أزعم لنفسي موقفاً محدداً من القضايا الاجتماعية المطروحة بل أطمح للمشاركة في حل هذه المعضلات الاجتماعية التي تواجهنا كبشر نعيش في هذا المجتمع عن طريق الفن السينمائي لما له من قوة تأثير جماهيرية كبيرة». وهذا ما سحبه على فيلمه «المجرم» (1979) المقتبس عن الفيلم الأمريكي الشهير Sin «الخطيئة»، بطولة حسن يوسف وشمس البارودي ومحمد عوض، إذ يعيش رجل وامرأة قصة حب خاطئة تؤدي إلى جريمة قتل.

كما تضمن فيلم «حمام الملاطيلي» 1973، خلفية شعبية ملحمية بأجوائها وأشخاصها وديكوراتها، حيث يحكي قصة شاب مهجر من الإسماعيليه ويقيم مع اسرته في الشرقية يأتي إلى القاهرة من اجل الحصول علي وظيفه ولاستكمال تعليمه بكليه الحقوق ولكنه يتعثر في كلاهما ويسكن في «حمام الملاطيلي» بسبب انخفاض أجرة المبيت فيه. يحب الشاب فتاة ليل هاربة وتحبه ثم تحاول التوبة، إلا أن عمها وابنه يقومون بقتلها انتقاما لشرفهم.

والفيلم من بطولة شمس البارودي ومحمد العربي ويوسف شعبان.

وعرف أبو سيف بعشقه للتاريخ وتوليه إخراج أفلام تاريخية ملأى بالأحداث التي تمكنه من تسليط الأضواء على تاريخ الأمة العربية ومنها: «مغامرات عنتر وعبلة» (1948)، حيث تعلن مربية عبلة في ليلة زفافها على عنتر أنه أخوها بالرضاعة فيهيم عنتر بالصحراء ويجد قبيلة عربية أغار عليها الرومان فيقرر الانتقام لها فتهرع القبائل العربية الأخرى للانضمام إليه. والفيلم من بطولة كوكا وسراج منير وزكي طليمات ونجمة ابراهيم.

و«فجر الإسلام» (1971)، من بطولة  محمود مرسي ونجوى، إبراهيم ويحيى شاهين وعبد الرحمن علي وسميحة أيوب.

و«القادسية» (1982) الذي اشترك فيه العديد من الفنانين العرب من مختلف اقطار الوطن العربيمن العراق ومصر والكويت وسوريا والمغرب وغيرهم مثل سعاد حسني وعزت العلايلي وشذى سالم وليلى طاهر ومحمد حسن الجندي وهالة شوكت وكنعان وصفي .

ويرى أبو سيف أن البيئة، بمدلولاتها الصادقة، هي التي تسمو بالعمل الفني أياً كان طموحه ونوعه، ومن هذا المنطلق كان سر نجاحه في نقل قصص الأديب نجيب محفوظ إلى الشاشة الكبيرة واعترف هذا الأخير بأن أعماله الأدبية لم تنجح كما يشتهي لها إلا عندما تولى إخراجها صلاح أبو سيف الذي استطاع إقناع محفوظ بكتابة سيناريوهات لأفلام أخرى قام أبو سيف بإخراجها لاحقاً.

الرمز في أفلامه

مال ابوسيف إلى استخدام الرمز للدلالة على وصف شخصيات محددة في أفلامه.

ففي فيلم «بداية ونهاية»، 1960، بطولة فريد شوقي وعمر الشريف وأمينة رزق وسناء جميل وصلاج منصور، ومأخوذ من رواية لنجيب محفوظ بنفس الإسم، وبعد أن أبلغ صلاح منصور نفيسة (سناء جميل) صراحة بقراره البعد عنها بعد أن نال منها مراده، ظهر في الكادر بائع روبابيكيا يصيح «روبايكيا» في إشارة إلى الحال التي آلت إليها البطلة التي لم تعد سوى “روبابيكيا” أي لا تسوى شيئا.

وفي فيلم «روعة الحب»، 1960، بطولة شادية وعمر الشريف وأحمد مظهر، استخدم صلاح ابوسيف (القطة) كدلالة على تأكيد الأحداث، فالقطة مجرد تابع للزوجة آمال (شادية) تنقلها معها من بيتها وتكشف عن وجه المرأة الرومانسي الذي يتعامل مع الحيوانات الأليفة بمنتهى الرقة، في الوقت نفسه نجد أن الزوج (احمد مظهر) أخرج هذه القطة من الغرفة بكل خشونة منذ الليلة الأولى وبالتالي لم تستخدم هذه القطة لترسيخ فكرة السيطرة بالتخلص منها أو قتلها ولكن بالتعامل معها فقط في اطار بعيد عن الرقة وهو ما يتناسب مع طبيعة الزوج المخمور دائما.

وفي فيلم «القاهرة 30»، 1966، وضع ابوسيف بطل العمل محجوب عبدالدايم (حمدي أحمد) في كادر وخلفه قرنين في مشهد خالد في السينما المصرية للدلالة على أنه صار قوادا، حسبما هو معروف في الثقافة المصرية.

علاقته مع نجيب محفوظ

يمكن القول إن دخول نجيب محفوظ للإستديو، كاتباً للسيناريو قد أدخل السينما المصرية في طريق جديد، مغاير تماماً لما كانت قد ألفته قبلاً. وكان مما له مغزاه حقا، أن هذا الفتح الفني، البالغ الأهمية قد إرتبط بالمخرج صلاح أبو سيف، الذي كان قد فتح باب ذلك الإستديو لرفيق الإبداع. وعن اللقاء الأول مع محفوظ، الذي جرى عام 1945، يقول أبو سيف في حديث صحفي : قال صلاح أبوسيف إنه هو الذي الذي اكتشفت نجيب محفوظ ككاتب للسيناريو وكان ذلك في عام (1945)، مشيرا إلى أن نجيب محفوظ اشترك معه في كتابة (15) سيناريو، كانت من أفضل ما أخرج من أعمال سينمائية.

 وأوضح أنه كان له صديقان عزيزان جداً هما عبد الحليم نويرة الموسيقي المعروف، وشقيقه فؤاد نويرة، وكانا كثيراً ما يتحدثان عن كاتب اسمه نجيب محفوظ، ثم أعطيانه روايتيه اللتين كتبهما عن تاريخ مصر القديمة وهما  «كفاح طيبة»، و«رادوبيس».

وأشار إلى أن الذي أعجبه فيهما أن نجيب محفوظ يكتب بالصورة، وليس بالاسلوب اللغوي، وعندما التقاه، قال له: «استاذ نجيب أنا أريد أن تشاركني في كتابة السيناريو السينمائي.. »، فقال: «ليست عندي معرفة أو خبرة في هذا المجال.. »، فشرح له وقال: «أنت عندك المبادئ الأساسية الخاصة بالسيناريو، لأنك تكتب بأسلوب درامي، وما ينقصك هو معرفة خصائص الكتابة للسينما، وهذه مسألة ممكن التغلب عليها.. وجلب له عدة كتب عن حرفية السيناريو، وتمخض أول تعاون بينهما عن فيلم «مغامرات عنتر وعبلة» من بطولة كوكا، وسراج منير، واخراج نيازي مصطفى «لك يوم يا ظالم»- «الوحش»- «الفتوة»- «ريا وسكينة»- «بين السماء والأرض»- «الطريق المسدود»- «أنا حرة».

وبدوره، قال نجيب محفوظ عن ذلك إنه حين انتهي من سيناريو أول فيلم من إخراج صلا أبوسيف «غراميات عنتر وعبلة» اعتذر عن أن يتلقي مكافاة عن عمله لأنه تعلم من صلاح ابو سيف كتابة السيناريو.

لماذا تمسك أبوسيف بفيلم «السقا مات»؟

أن يصر مخرج على تقديم فيلم عن الموت وفلسفته في مجتمع ينبذ الموت ويهرب منه لهو شئ غريب جدا. فهي في رأي الكثيرين مغامرة قد تفقد صاحبها الكثير من المال والرصيد الجماهيري أيضا. لكن اصرار صلاح ابو سيف على تحويل رواية «السقا مات» التي  كتبها الأديب الراحل يوسف السباعي عام 1952 إلى فيلم كان تحديا كبيرا واجهه وانتصر فيه في النهاية.

ويعتبر الكثير من النقاد أن رواية «السقا مات» أهم روايات يوسف السباعي. وتدور أحداث الرواية في عام العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي في القاهرة حيث كان للسقا دور كبير في تلبية احتياجات المنازل من مياه النيل.

والفكرة الرئيسية فيها حول فلسفة الموت من خلال شخصيتين متضادتين هما المعلم شوشة «السقا» الذي يحاول الهروب من ذكرى وفاة زوجته الشابة، والشخصية الثانية «شحاته افندي» عامل الجانزات الذي ينهل من كل متع الحياة دون قيود.

وتحدث المفارقة عندما ينقذ المعلم شوشة شحاته افندي من الضرب في أحد المطاعم ثم تتوثق علاقته به ويدعوه للإقامه معه في بيته مع حماته وابنه سيد، وهو لا يعلم ان هذا الشخص يعمل في مجال متعلق بدفن الموتى. (يسير في الجنازات مرتديا بذلة سوداء ليبدو كشخصية هامة تشيع الميت).

ينفر المعلم شوشة من ضيفه في البداية إلا إن الضيف سرعان ما يتمكن من إقناع المعلم شوشة بمواصلة حياتة ونبذ الخوف من الموت، إلا أن أكبر مفارقة تحدث عندما يموت الضيف نفسه فجأة في بيت شوشة فينهار المعلم بسبب ذلك.

بعد فترة يستعيد المعلم شوشة عافيته ويأتيه خبر سار بتعيينه شيخاً للساقيين في المنطقة، إلا أن البيت ينهار فوق رأس المعلم وتنتهي حياته في مشهد قوي ومؤثر. (هكذا كانت الرواية الأصلية).

وقد حاول المخرج الراحل صلاح أبوسيف تحويل الرواية إلى عمل سينمائي في السبيعينيات إلا إن جميع المنتجين رفضوا المغامرة بإنتاج فيلم يتحدث عن الموت، لكنه واظب على المحاولة إيمانا بأهمية الرواية وثقته في أن تحويلها إلى فيلم سوف يلقى قبولا من الأوساط الفنية لاسيما من النقاد.

وتمكن صلاح أبو سيف في النهاية من الحصول على موافقة المنتج والمخرج يوسف شاهين على إنتاج الفيلم بالاشتراك مع شركة ساتبيك التونسية سنة 1977، حيث قام بكتابة السيناريو محسن زايد بالاشتراك مع صلاح أبو سيف.

وقام بالتمثيل فيه عزت العلايلي في دور شوشة، فريد شوقي في دور شحاته افندي، أمينة رزق ام الزوجة، ناهد جبر الزوجة، شويكار فتاة الليل الجميلة.

إلا إن نهاية الفيلم مختلفة عن نهاية الرواية، حيث تعمد كاتبا السيناريو أن تكون النهاية فيها قدر من التفاؤل، حيث لا يفلح شوشة في نسيان احزانه الدائمة المتعلقة بوفاة زوجته ولكن يجد سلواه في متابعة الجنازات وذلك بعد وفاة شحاتة افندى، وذلك عوضا عن ما كتبه المؤلف يوسف السباعي عن انهيار منزل شوشه وموته تحت الأنقاض. في الفيلم لا يموت شوشة بل يصبح شيخا للسقايين ويوصي ابنه سيد أن يهتم بشجرة التمر حنا التي شهدت بدايات حبه لامه آمنة ولطالما اهتم بها منذ ذاك.

مرارة في القلب على حال السينما المصرية

في حديث أجراه الكاتب والإعلامي العربي الدكتور نجم عبدالكريم مع المخرج صلاح أبوسيف قبل وفاته، وأعادت نشره روزاليوسف اليومية يوم 07 – 10  2011 ، عبر صلاح أبوسيف عن ما في قلبه من مرارة وقلق كبير على السينما المصرية وحالها.

فردا على سؤال عن الكيفية التي يرى بها ابوسيف صناعة السينما المصرية في ذاك الوقت، قال: «بكل أسف إن صناعة السينما في مصر متخلفة جداً، جداً، والسبب أن هناك من يسعون لتدمير وفشل هذه الصناعة، وهم أنفسهم ما زالوا يقفون ضد صناعة سينما مصرية نظيفة. انهم من السينمائيين، أو بالأحري من جماعة سينما المقاولات، لأنهم ينظرون اليها من زاوية تجارية بحتة، حتي وإن قدمت للجمهور كل ما هو مبتذل ورخيص، فوقفوا بكل ما يملكون من قوة لافشال القطاع العام في مجال السينما، واستغلوا مرحلة الانفتاح الساداتية، لتصل السينما المصرية الي احط مراحل تاريخها في عقود ما بعد القطاع العام، فأصبحت شاشة السينما المصرية مليئة بالمشاهد الاباحية والفجور، والاغراء والانحلال. فالبطلة تخرج من مشهد جنس الي مشهد جنس آخر، والحوار بذيء والألفاظ رخيصة مكشوفة. أما الرقابة فكأنها تعبر عن مجتمع أمريكي، عن الليبرالية التي يمارسونها هناك، عن حضارة غسل المخ بالجنس والعنف، والمخدرات، وكرة القدم، والاعلانات، والسلع الاستهلاكية لأنهم لا ينظرون الا لحصيلة الشباك، وهذا تقليد في ابتذال السينما الأمريكية ولكن علي مستوي أقذر وأتفه.. والجيد من أفلام المقاولات هذه، وهو نادر جداً، لايزيد علي فيلم أو فيلمين من كل مئة فيلم».

وعندما سئل أليس هذا حكماً قاسياً علي السينما المصرية المعاصرة؟ أجاب: «ما أقوله هو ما يحدث الآن بالفعل، لدرجة أن السينما قد ربت نوعاً من الجمهور أكثره من الغوغاء. بل إن المحترمين من الناس اذا ذهب الواحد منهم الي دار السينما ليشاهد فيلماً، فإنه لا يكررها ثانيةً، لما يسمعه من تعليقات منحطة داخل دور العرض. فهذا الفن السينمائي الرديء هو العملة الرابحة في السينما المصرية المعاصرة».

ورأى صلاح ابوسيف أن «الحل لعلاج ذلك يكون بإنشاء ادارة مكافحة الأعمال السينمائية المبتذلة، شبيهة بإدارة مكافحة تجارة المخدرات. وأن يحاكم من يخرجون هذه النوعية من الافلام الرديئة».

وأضاف: «أنا أعرف أحد المخرجين، يقوم بانتاج واخراج سبعة افلام في السنة. هل تعرف ماذا يعني هذا؟ سبعة أفلام!!.. متي يقرأ السيناريوهات الخاصة بها؟!.. متي يقوم بتقطيع المشاهد لكل سيناريو؟!.. متي يعقد اجتماعاته مع المساعدين، وجهاز التصوير، وجهاز الديكور، بل متي يلتقي بالممثلين، هذا النوع من المخرجين يجب أن يقدم للمحاكمة».

وأوضح أن الإدارة المقترحة سيكون من مهامها مكافحة الأضرار الاجتماعية، شبيهة بادارة مكافحة المخدرات، ومثل ادارة شرطة الآداب التي مهمتها الحفاظ علي السلوك العام، والحياء العام. والمحافظة علي سلامة الذوق العام في المجتمع.

واسترسل ابوسيف قائلا: «تصور أن هناك مسابقة تجري في الوقت الحاضر، تقوم علي أساس: من يقوم باخراج فيلم خلال اسبوعين؟!.. وأصبحت للأسف الآن عشرة أيام..؟! وأنا أعرف أحدهم أخرج فيلماً كاملاً في اسبوع واحد !!وعندما أسافر الي الاسكندرية في الاتوبيس أشاهد أفلاماً غريبة، عمري ما سمعت عنها!! وهي أفلام مصرية!! بممثلين معروفين».

وأكد أن للسينما رسالة ثقافية ترفيهية، ولا يجب أن يقوم علي صناعتها إلا من كان جديراً بها، أما حكاية «الجمهور عايز كده» التي أصبحت كلمة يشار بها الي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر بسبب الجهلة الذين اخترقوا صناعة السينما!! فهي تدل علي الرخص والابتذال.. وأن هذه الكلمة يجب أن تُمحي من قاموس السينما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى